فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{أَوْ كَصَيّبٍ} تمثيلٌ لحالهم إثرَ تمثيل، ليعُم البيانُ منها كل دقيق وجليل، ويوفيَ حقها من التفظيع والتهويل، فإن تفنُّنهم في فنون الكفر والضلال وتنقّلَهم فيها من حال إلى حال حقيقٌ بأن يُضربَ في شأنه الأمثال، ويرخى في حلبته أعِنّةُ المقال، ويُمدَّ لشرحه أطنابُ الإطناب، ويُعقَدَ لأجله فصولٌ وأبواب، لما أن كل كلام له حظ من البلاغة، وقسط من الجزالة والبراعة، لابد أن يُوفَّى فيه حقُّ كلَ من مقامي الإطناب والإيجاز، فما ظنُّك بما في ذُروة الإعجاز من التنزيل الجليل، ولقد نُعيَ عليهم في هذا التمثيل تفاصيلُ جناياتهم، وهو عطف على الأول على حذف المضاف لما سيأتي من الضمائر المستدعية لذلك، أي كمثل ذوي صيِّب، وكلمة أو للإيذان بتساوي القصتين في الاستقلال بوجه الشبه وبصحة التمثيل بكل واحدة منهما وبهما معًا، والصيب فيعل من الصَوْب وهو النزول الذي له وقع وتأثير، يطلق على المطر وعلى السحاب، قال الشماخ:
عفا آيَةُ نسجُ الجنوب مع الصَّبا ** وأسحمُ دانٍ صادقُ الوعد صيِّبُ

ولعل الأول هو المراد هاهنا لاستلزامه الثاني، وتنكيره لما أنه أريد به نوع منه شديدٌ هائل كالنار في التمثيل الأول، وأُمِدَّ به ما فيه من المبالغات من جهة مادته الأولى التي هي الصادُ المستعليةُ والياء المشددة والباء الشديدة، ومادتِه الثانية أعني الصَّوْب المنبئ عن شدة الانسكاب، ومن جهة بنائه الدال على الثبات، وقرئ أو كصائب {مّنَ السماء} متعلق بصيب، أو بمحذوفٍ وقع صفة له، والمرادُ بالسماء هذه المِظلة، وهي في الأصل كلُّ ما علاك من سقف ونحوه، وعن الحسن أنها موجٌ مكفوف، أي ممنوع بقدرة الله عز وجل من السيلان، وتعريفها للإيذان بأن انبعاث الصيب ليس من أفق واحد، فإن كل أفق من آفاقها أي كلَّ ما يحيط به كلُّ أفقٍ منها سماءٌ على حِدَة، قال:
ومن بعدِ أرضٍ بيننا وسماءِ

كما أن كل طبقة من طباقها سماء، قال تعالى: {وأوحى في كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} والمعنى أنه صيّب عام نازل من غمام مطبِقٍ آخذٍ بالآفاق، وقيل المراد بالسماء السحاب، واللام لتعريف الماهية.
{فِيهِ ظلمات} أي أنواع منها، وهي ظُلمةُ تكاثُفِه وانتساجِه بتتابع القطر، وظلمةُ الهلال ما يلزمه من الغمام الأسحمِ المطبق الآخذ بالآفاق مع ظلمة الليل، وجعلُه محلًا لها مع أن بعضها لغيره كظلمتي الغمام والليل، لما أنهما جُعلتا من توابع ظلمتِه مبالغةً في شدته وتهويلًا لأمره، وإيذانًا بأنه من الشدة والهول بحيث تغمر ظلمتُه ظلماتِ الليل والغمام، وهو السر في عدم جعل الظلمات هي الأصلَ المستتبعَ للبواقي، مع ظهور ظرفيتها للكل، إذ لو قيل أو كظلمات فيها صيب الخ لما أفاد أن للصيب ظلمةً خاصة به فضلًا عن كونها غالبة على غيرها.
{وَرَعْدٌ} وهو صوت يسمع من السحاب، والمشهور أنه يحدث من اصطكاك أجرام السحاب بعضِها ببعض، أو من انقلاع بعضِها عن بعض عند اضطرابها، بسوق الرياحِ إياه سوقًا عنيفًا {وَبَرْقٌ} وهو ما يلمع من السحاب من بَرَق الشيءُ بريقًا أي لمع، وكلاهما في الأصل مصدر، ولذلك لم يجمعا، وكونُهما في الصيب باعتبار كونِهما في أعلاه ومصبِّه ووصول أثرِهما إليه وكونِهما في الظلمات الكائنةِ فيه، والتنوين في الكل للتفخيم والتهويل كأنه قيل: فيه ظلماتٌ شديدة داجية ورعدٌ قاصفٌ وبرق خاطف، وارتفاع الجميع بالظرف على الفاعلية لتحقيق شرط العملِ بالاتفاق، وقيل بالابتداء، والجملةُ إما صفةٌ لصيب أو حالٌ منه لتخصصه بالصفة، أو بالعمل فيما بعده من الجار أو من المستكنّ في الظرف الأول على تقدير كونِه صفةً لصيب، والضمائر في قوله عز وجل: {يَجْعَلُونَ أصابعهم في ءاذَانِهِم} للمضاف الذي أقيم مُقامه المضافُ إليه فإن معناه باقٍ وإن حذف لفظه تعويلًا على الدليل كما في قوله: {وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فإن الضمير للأهل المدلول عليه بما قام مقامه من القرية قال حسان رضي الله عنه:
يَسْقون من وَرَدَ البريصَ عليهم ** بردى يُصفَّقُ بالرحيق السلسلِ

فإن تذكير الضمير المستكن في يُصفَّق لرجوعه إلى الماء المضاف إلى بردى وإلا لأنّث حتمًا، وإيثارُ الجعل المنبئ عن دوام الملابسة، واستمرارِ الاستقرار على الإدخال المفيدِ لمجرد الانتقال من الخارج إلى الداخل للمبالغة في بيان سدِّ المسامع باعتبار الزمان كما أن إيرادَ الأصابع بدلَ الأنامل للإشباع في بيان سدِّها باعتبار الذات، كأنهم سدُّوها بجملتها لا بأناملها فحسب كما هو المعتاد، ويجوز أن يكون هذا إيماءً إلى كمال حَيْرتهم وفرْطِ دهشتهم وبلوغهم إلى حيث لا يهتدون إلى استعمال الجوارحِ على النهج المعتاد، وكذا الحال في عدم تعيين الأصبع المعتادِ أعني السبابة، وقيل: ذلك لرعاية الأدب، والجملةُ استئناف لا محل لها من الإعراب، مبني على سؤال نشأ من الكلام، كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة: فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة، فقيل: يجعلون إلخ.
وقوله تعالى: {مّنَ الصواعق} متعلق بيجعلون أي من أجل الصواعقِ المقارنةِ للرعد، من قولهم سقاه من الغَيْمة، والصاعقةُ قُصفةُ رعد تنقضّ معها شعلة نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه. من الصَّعَق وهو شدةُ الصوت، وبناؤها إما أن يكون صفةً لقصفة الرعد أو للرعد، والتاء للمبالغة. كما في الرواية، أو مصدر كالعافية. وقد تطلق على كل هائلٍ مسموع أو مشاهد، يقال: صَعَقَتْه الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق، أو بشدة الصوت، وسدُّ الآذان إنما يفيد على التقدير الثاني دون الأول، وقرئ من الصواقع وليس ذلك بقلب من الصواعق لاستواء كلا البناءين في التصرف، يقال: صقَع الديكُ، وخطيب مِصْقَع أي مُجهِرٌ بخطبته {حَذَرَ الموت} منصوب بيجعلون على العلة وإن كان معرفة بالإضافة كقوله:
وأغفِرُ عوراءَ الكريم ادِّخارَه ** وأصفَحُ عن شتم اللئيم تكرما

ولا ضير في تعدد المفعول له، فإن الفعل يعلل بعلل شتى، وقيل هو نصب على المصدرية أي يحذرون حذرًا مثل حذر الموت، والحَذر والحذار هو شدة الخوف، وقرئ حذارَ الموت، والموتُ زوال الحياة، وقيل عرَضُ يُضادُّها، لقوله تعالى: {خَلَقَ الموت والحياة} ورُدّ بأن الخلق بمعنى التقدير والإعدام مقدرة. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء} شروع في تمثيل حالهم إثر تمثيل وبيان لكل دقيق منها وجليل فهم أئمة الكفر الذين تفننوا فيه وتفيؤا ظلال الضلال بعد أن طاروا إليه بقدامى النفاق وخوافيه فحقيق أن تضرب في بيداء بيان أحوالهم الوخيمة خيمة الأمثال وتمد أطناب الإطناب في شرح أفعالهم ليكون أفعى لهم ونكالًا بعد نكال وكل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة والبراعة لابد أن يوفى فيه حق كل من مقامي الإطناب والإيجاز فماذا عسى أن يقال فيما بلغ الذروة العليا من البلاغة والبراعة والإعجاز؟ ولقد نعى سبحانه عليهم في هذا التمثيل تفاصيل جناياتهم العديمة المثيل وهو معطوف على {الذى استوقد نَارًا} [البقرة: 7 1] ويكون النظم كمثل ذوي صيب فيظهر مرجع ضمير الجمع فيما بعد وتحصل الملائمة للمعطوف عليه والمشبه.
وأو عند ذوي التحقيق لأحد الأمرين ويتولد منه في الخبر الشك والإبهام والتفصيل على حسب اعتبارات المتكلم، وفي الإنشاء الإباحة والتخيير كذلك، وحينئذٍ لا يلزم الاشتراك ولا الحقيقة والمجاز، وبعضهم يقول: إنها باعتبار الأصل موضوعة للتساوي في الشك، وحمل على أنه فرد من أفراد المعنى الحقيقي ثم اتسع فيها فجاءت للتساوي من غير شك كما فيما نحن فيه على رأي إذ المعنى مثل بأي القصتين شئت فهما سواء في التمثيل ولا بأس لو مثلت بهما جميعًا وإن كان التشبيه الثاني أبلغ لدلالته على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذا أخر ليتدرج من الأهون إلى الأهول، وزعم بعضهم أن {أَوْ} هنا بمعنى الواو وما في الآيتين تمثيل واحد، وقيل: بمعنى بل، وقيل: للإبهام، والكل ليس بشيء، نعم اختار أبو حيان أنها للتفصيل وكأن من نظر إلى حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد؛ ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب مدعيًا أن الإباحة وكذا التخيير لا يكونان إلا في الأمر أو ما في معناه انتهى.
ولا يخفى على من نظر في معناه وحقق ما معناه أن ما نحن فيه داخل في الشق الثاني على أن دعوى الاختصاص مما لم يجمع عليه الخواص، فقد ذكر ابن مالك أن أكثر ورود أو للإباحة في التشبيه نحو {فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 4 7] والتقدير نحو {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} [النجم: 9] والصيب في المشهور المطر من صاب يصوب إذا نزل وهو المروي هنا عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، ويطلق على السحاب أيضًا كما في قوله:
حتى عفاها صيب ودقه ** داني النواحي مسبل هاطل

ووزنه فيعل بكسر العين عند البصريين وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين إلا ما شذ من صيقل بكسر القاف علم لامرأة، والبغداديون يفتحون العين وهو قول تسد الأذن عنه، وقريب منه قول الكوفيين: إن أصله فعيل كطويل فقلب، وهل هو اسم جنس أو صفة بمعنى نازل أو منزل؟ قولان أشهرهما الأول، وأكثر نظائره في الوزن من الثاني، وقرئ: {أو كصائب} وصيب أبلغ منه، والتنكير فيه للتنويع والتعظيم، والسماء كل ما علاك من سقف ونحوه والمعروفة عند خواص أهل الأرض والمرئية عند عوامهم، وأصلها الواو من السمو وهي مؤنثة وقد تذكر كما في قوله:
فلو رفع السماء إليه قوما ** لحقنا بالسماء مع السحاب

وتلحقها هاء التأنيث فتصح الواو حينئذ كما قاله أبو حيان لأنها بنيت عليها الكلمة فيقال سماوة وتجمع على سموات وأسمية وسمائيّ، والكل كما في البحر شاذ لأنها اسم جنس وقياسه أن لا يجمع، وجمعه بالألف والتاء خال عن شرط ما يجمع بهما قياسًا، وجمعه على أفعلة ليس مما ينقاس في المؤنث، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال.
والمراد بالسماء هنا الأفق والتعريف للاستغراق لا للعهد الذهني كما ينساق لبعض الأذهان فيفيد أن الغمام آخذ بالآفاق كلها فيشعر بقوة المصيبة مع ما فيه من تمهيد الظلمة ولهذا القصد ذكرها، وعندي أن الذكر يحتمل أن يكون أيضًا للتهويل والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء كما يشير إليه قوله تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم} [الحج: 9 1] وكثيرًا ما نجد أن المرء يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلسانًا لذلك، والعيان الوجدان أقوى شاهد على ما قلنا.
و{مِنْ} لابتداء الغاية، وقيل: يحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف أي من أمطار السماء وليس بشيء، وزعم بعضهم أن الآية تبطل ما قيل: إن المطر من أبخرة متصاعدة من السفل وهو من أبخرة الجهل إذ ليس في الآية سوى أن المطر من هذه الجهة وهو غير مناف لما ذكر، كيف والمشاهدة تقضي به فقد حدثني من بلغ مبلغ التواتر أنهم شاهدوا وهم فوق الجبال الشامخة سحابًا يمطر أسفلهم وشاهدوا تارات أبخرة تتصاعد من نحو الجبال فتنعقد سحابًا فيمطر، فإياك أن تلتفت لبرق كلام خلب ولا تظن أن ذلك علم فالجهل منه أصوب، ثم حمل الصيب هنا على السحاب وإن كان محتملًا غير أنه بعيد بعد الغمام وكذا حمل السماء عليه.
{فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} أي معه ذلك كما في قوله تعالى: {ادخلوا في أُمَمٍ} [الأعراف: 8 3] وإذا حملت {فِى} على الظرفية كما هو الشائع في كلام المفسرين احتيج إلى حمل الملابسة التي تقتضيها الظرفية على مطلق الملابسة الشاملة للسببية والمجاورة وغيرهما ففيه بذلك المعنى ظلمات ثلاث ظلمة تكاثفه بتتابعه، وظلمة غمامه من ظلمة الليل التي يستشعرها الذوق من قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} [البقرة: 0 2] وكذا فيه رعد وبرق لأنهما في منشئه ومحل ينصب منه، وقيل: فيه وهو كما قال الشهاب وهم نشأ من عدم التدبر، وإن كان المراد بالصيب السحاب فأمر الظرفية أظهر، والظلمات حينئذ ظلمة السحمة والتطبيق مع ظلمة الليل، وجمع الظلمات على التقديرين مضيء، ولم يجمع الرعد والبرق وإن كانا قد جمعا في لسان العرب، وبه تزداد المبالغة وتحصل المطابقة مع الظلمات والصواعق لأنهما مصدران في الأصل، وإن أريد بهما العينان هنا كما هو الظاهر، والأصل في المصدر أن لا يجمع على أنه لو جمعا لدل ظاهرًا على تعدد الأنواع كما في المعطوف عليه، وكل من الرعد والبرق نوع واحد.
وذكر الشهاب مدعيًا أنه مما لمعت به بوارق الهداية في ظلمات الخواطر نكتة سرية في إفرادهما هنا وهي أن الرعد كما ورد في الحديث وجرت به العادة يسوق السحاب من مكان لآخر فلو تعدد لم يكن السحاب مطبقًا فتزول شدة ظلمته وكذا البرق لو كثر لمعانه لم تطبق الظلمة كما يشير إليه قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} [البقرة: 0 2] فافرادهما متعين هنا وعندي وهو من أنوار العناية المشرقة على آفاق الأسرار أن النور لما لم يجمع في آية من القرآن لما تقدم لم يجمع البرق إذ ليس هو البعيد عنه كما يرشدك إليه {كُلمَا أَضَاء لَهُم} [البقرة: 20] والرعد مصاحب له فانعكست أشعته عليه.
أو ما ترى الجلد الحقير مقبلا ** بالثغر لما صار جار المصحف

وارتفاع ظلمات إما على الفاعلية للظرف المعتمد على الموصوف أو على الابتدائية والظرف خبره وجعل الظرف حالًا من النكرة المخصصة وظلمات فاعله لا يخلو عن ظلمة البعد كما لا يخفى.
وللناس في الرعد والبرق أقوال: والذي عول عليه أن الأول: صوت زجر الملك الموكل بالسحاب، والثاني: لمعان مخاريقه التي هي من نار.
والذي اشتهر عند الحكماء أن الشمس إذا أشرقت على الأرض اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب منهما دخان ويختلط بالبخار وهو الحادث بسبب الحرارة السماوية إذا أثرت في البلة ويتصاعدان معا إلى الطبقة الباردة وينعقد ثمة سحاب ويحتقن الدخان فيه ويطلب الصعود إن بقى على طبعه الحار والنزول إن ثقل وبرد وكيف كان يمزق السحاب بعنفه فيحدث منه الرعد، وقد تشتعل منه لشدة حركته ومحاكته نار لامعة وهي البرق إن لطفت والصاعقة إن غلظت، وربما كان البرق سببًا للرعد فإن الدخان المشتعل ينطفئ في السحاب فيسمع لانطفائه صوت كما إذا أطفأنا النار بين أيدينا، والرعد والبرق يكونان معا إلا أن البرق يرى في الحال لأن الأبصار لا يحتاج إلى المحإذاة من غير حجاب، والرعد يسمع بعد لأن السماع إنما يحصل بوصول تموج الهواء إلى القوة السامعة وذلك يستدعي زمانًا كذا قالوه، وربما يختلج في ذهنك قرب هذا ولا تدري ماذا تصنع بما ورد عن حضرة من أسري به ليلًا بلا رعد ولا برق على ظهر البراق وعرج إلى ذي المعارج حيث لا زمان ولا مكان فرجع وهو أعلم خلق الله على الإطلاق صلى الله عليه وسلم فأنا بحول من عز حوله وتوفيق من غمرني فضله أوفق بما يزيل الغين عن العين ويظهر سر جوامع الكلم التي أوتيها سيد الكونين صلى الله عليه وسلم.
فأقول: قد صح عند أساطين الحكمة والنبوة مما شاهدوه في أرصادهم الروحانية في خلواتهم ورياضاتهم وكذا عند سائر المتألهين الربانيين من حكماء الإسلام والفرس وغيرهم أن لكل نوع جسماني من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها ربًا هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر له حافظ إياه وهو المنمي والغاذي والمولد في النبات والحيوان والإنسان لامتناع صدور هذه الأفعال المختلفة في النبات والحيوان عن قوة بسيطة لا شعور لها وفينا عن أنفسنا وإلا لكان لنا شعور بها، فجميع هذه الأفعال من الأرباب وإلى تلك الأرباب أشار صاحب الرسالة العظمى صلى الله عليه وسلم بقوله: «وإن لكل شيء ملكًا» حتى قال: «إن كل قطرة من القطرات ينزل معها ملك» وقال: «أتاني ملك الجبال وملك البحار».
وحكى أفلاطون عن نفسه أنه خلع الظلمات النفسانية والتعلقات البدنية وشاهدها، وذكر مولانا الشيخ صدر الدين القونوي قدس سره في تفسيره الفاتحة أنه ما ثم صورة إلا ولها روح، وأطال أهل الله تعالى الكلام في ذلك، فإذا علمت هذا فلا بعد في أن يقال: أراد صلى الله عليه وسلم بالملك الموكل بالسحاب في بيان الرعد هو هذا الرب المدبر الحافظ وبزجره تدبيره له حسب استعداده وقابليته، وأراد بصوت ذلك الزجر ما يحدث عند الشق بالأبخرة الذي يقتضيه ذلك التدبير، وأراد بالمخاريق في بيان البرق وهي جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف وتضرب به الصبيان بعضهم بعضًا الآلة التي يحصل بواسطتها الشق، ولا شك أنها كما قررنا من نار أشعلتها شدة الحركة والمحاكة فظهرت كما ترى، وحيث فتحنا لك هذا الباب قدرت على تأويل كثير مما ورد من هذا القبيل حتى قولهم: إن الرعد نطق الملك والبرق ضحكه، وإن كان بحسب الظاهر مما يضحك منه، ولم أر أحدًا وفق فوفق وتحقق فحقق والله تعالى الموفق وهو حسبي ونعم الوكيل.
{يَجْعَلُونَ أصابعهم في ءاذَانِهِم مّنَ الصواعق حَذَرَ الموت} الضمائر عائدة على المحذوف المعلوم فيما قبل وكثيرًا ما يلتفت إليه كما في قوله تعالى: {وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4].
والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة فقال: {يَجْعَلُونَ} الخ، وجوزوا وجوهًا أخر ككونها في محل جر صفة للمقدر وجوز فيها وفي {يَكَادُ} [البقرة: 0 2] كونها صفة صيب بتأويل نحو لا يطيقونه أو في محل نصب على الحال من ضمير فيه، والعائد محذوف أو اللام نائبة عنه أي صواعقه، والجعل في الأصل الوضع.
والأصابع جمع إصبع وفيه تسع لغات حاصلة من ضرب أحوال الهمزة الثلاث في أحوال الباء كذلك، وحكوا عاشرة وهي أصبوع بضمها مع واو وهي مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الإبهام فبعض بني أسد يذكرها والتأنيث أجود.
وفي الآية مبالغة في فرط دهشتهم وكمال حيرتهم كما في الفرائد من وجوه.
أحدها: نسبة الجعل إلى كل الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وهو الأنامل وثانيها: من حيث الإبهام في الأصابع والمعهود إدخال السبابة فكأنهم من فرط دهشتهم يدخلون أي أصبح كانت ولا يسلكون المسلك المعهود وثالثها: في ذكر الجعل موضع الإدخال فإن جعل شيء في شيء أدل على إحاطة الثاني بالأول من إدخاله فيه، وهل هذا من المجاز اللغوي لتسمية الكل باسم جزئه أو للتجوز في الجعل؟ أو هو من المجاز العقلي بأن ينسب الجعل للأصابع وهو للأنامل، فيه خلاف والمشهور هو الأول وعليه الجمهور.
وابن مالك وجماعة على الأخير ظنًا منهم أن المبالغة في الاحتراز عن استماع الصاعقة إنما يكون عليه ولم يكتفوا فيها بتبادر الذهن إلى أن الكل أدخل في الأذن قبل النظر للقرينة، وقيل: لا مجاز هنا أصلًا لأن نسبة بعض الأفعال إلى ذي أجزاء تنقسم يكفي فيه تلبسه ببعض أجزائه كما يقال: دخلت البلد وجئت ليلة الخميس ومسحت بالمنديل فإن ذلك حقيقة من أن الدخول والمجيء والمسح في بعض البلد، والليلة، والمنديل ولا يخفى أن كون مثل ذلك حقيقة ليس على إطلاقه، والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر.
و{مِنْ} تعليلية تغني غناء اللام في المفعول له وتدخل على الباعث المتقدم والغرض المتأخر وهي متعلقة ب {يَجْعَلُونَ} وتعلقها بالموت بعيد أي يجعلون من أجل الصواعق وهي جمع صاعقة ولا شذوذ، والظاهر أنها في الأصل صفة من الصعق وهو الصراخ وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة لمؤنث أو للمبالغة إن لم تقدر كراوية أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كحقيقة وقيل: إنها مصدر كالعافية والعاقبة وهي اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد، والمشهور أنها الرعد الشديد معه قطعة من نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه، وقد يكون معه جرم حجرى أو حديدي، وسد الآذان إنما ينفع على المعنى الأول، وقد يراد المعنى الثاني ويكون في الكلام إشارة إلى مبالغة أخرى في فرط دهشتهم حيث يظنون ما لا ينفع نافعًا، وقرأ الحسن {من الصواقع} وهي لغة بني تميم كما في قوله:
ألم تر أن المجرمين أصابهم ** صواقع لا بل هن فوق الصواقع

وليس من باب القلب على الأصح إذ علامته كون أحد البناءين فائقًا للآخر ببعض وجوه التصريف والبناءان هنا مستويان في التصرف.
و{حَذَرَ الموت} نصب على العلة ل {يَجْعَلُونَ} وإن كان من الصواعق في المعنى مفعولًا له كان هناك نوعان منصوب ومجرور، ولزوم العطف في مثله غير مسلم خلافًا لمن زعمه ولا مانع من أن يكون علة له مع علته كما أن من الصواعق علة له نفسه، وورد مجيء المفعول له معرفة وإن كان قليلًا كما في قوله:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ** وأعرض عن شتم اللئيم تكرمًا

وجعله مفعولًا مطلقًا لمحذوف أي يحذرون حذر الموت بعيد.
وقرأ قتادة والضحاك وابن أبي ليلى {حذار} وهو كحذر شدة الخوف.
والموت في المشهور زوال الحياة عما يتصف بها بالفعل وإطلاقه على العدم السابق في قوله سبحانه: {وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 8 2] مجاز ولا يرد قوله تعالى: {خَلَقَ الموت} [الملك: 2] إذ لخلق فيه بمعنى التقدير وتعيين المقدار بوجه ما وهو مما يوصف به الموجود والمعدوم لأن العدم كالوجود له مدة ومقدار معين عنده تعالى، وقيل: المراد بخلق الموت إحداث أسبابه، وقيل: إنه العدم مطلقًا وإن لم يكن مخلوقًا إلا أن إعدام الملكات مخلوقة لما فيها من شائبة التحقق بمعنى أن استعداد الموضوع معتبر في مفهومها وهو أمر وجودي فيجوز أن يعتبر تعلق الخلق والإيجاد باعتبار ذلك، وصحح محققو أهل السنة أن الموت صفة وجودية خلقت ضدًا للحياة، ولهذا يظهر كما في الحديث: يوم تتجسد المعاني كما قال أهل الله تعالى بصورة كبش أملح ويصير عدمًا محضًا إذ يذبح بمدية الحياة التي لا ينتهي أمدها. اهـ.